الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: وَكَذَّبَ جُمْهُورُ قَوْمِكَ وَهُمْ قُرَيْشٌ بِالْعَذَابِ أَوْ بِالْقُرْآنِ، عَلَى مَا صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْجَاذِبَةِ إِلَى فِقْهِ الْإِيمَانِ بِجَعْلِهَا حُجَجًا يُثْبِتُهَا الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ فِي أَعْلَى أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِهِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا الْكِبْرُ وَالْعِنَادُ وَالْجُمُودُ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أَيْ: قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّنِي لَسْتُ بِوَكِيلٍ مُسَيْطِرٍ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ لَكُمْ، فَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَفِي الْوِكَالَةِ مَعْنَى السَّيْطَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، فَمَنْ جَعَلَهُ السُّلْطَانُ أَوِ الْمَلِكُ وَكِيلًا لَهُ عَلَى بِلَادِهِ أَوْ مَزَارِعِهِ يَكُونُ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ عَنْهُ فِيهَا وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، يُذَكِّرُ النَّاسَ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيُبَشِّرُهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَيُقِيمُ دِينَ اللهِ فِيهِمْ، هَذِهِ وَظِيفَتُهُ، وَلَيْسَ وَكِيلًا عَنْ رَبِّهِ وَمُرْسِلِهِ، وَلَا يُعْطَى الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي عِبَادِهِ حَتَّى يُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِجْبَارًا وَيُكْرِهَهُمْ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [2: 256]- {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [88: 21، 22] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [50: 45] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [2: 272] وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ (6: 48) وَقِيلَ: الْوَكِيلُ الْحَفِيظُ الْمُجَازِيُّ.وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُغْرَمِينَ بِتَكْثِيرِ الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةِ، قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ الْمُصِيبُ، فَإِنَّ الْأَذَى بِالْقِتَالِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَالْبَيْضَةِ لَمْ يُخْرِجِ الرَّسُولَ عَنْ كَوْنِهِ رَسُولًا، أَيْ عَبْدًا لِلَّهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ، لَا شَرِيكًا لَهُ وَلَا وَكِيلًا، وَمَا أَرَى الرِّوَايَةَ تَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ الْوَجْهُ فِي مُرَادِهِ مِنْهُ أَنَّ آيَةَ الْقِتَالِ أَزَالَتْ مَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ إِرْشَادِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السُّكُوتِ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ، ذَلِكَ التَّكْذِيبُ الْقَوْلِيُّ الْعَمَلِيُّ الَّذِي أَبْرَزُوهُ بِالصَّدِّ عَنْهُ، وَمَنْعِهِ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ، وَإِيذَائِهِ وَإِيذَاءِ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ مِنَ النَّسْخِ مَعْنًى أَعَمَّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ: أَيْ أَنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِحَرْبِكُمْ وَمَنْعِكُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ. انْتَهَى. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالَ كَثِيرُونَ بِنَسْخِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَهِيَ هِيَ الْفَضَائِلُ الَّتِي كَانَ صلى الله عليه وسلم مُتَحَلِّيًا بِهَا طُولَ عُمُرِهِ مَعَ وَضْعِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ.
{لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هَذَا تَمَامُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِقَوْمِهِ الْمُكَذِّبِينَ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ كَمَا قِيلَ، أَوِ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ يَهْتَمُّ بِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: خَبَرٌ ذُو فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ، وَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ. انْتَهَى. وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ أَوْ مَدْلُولُهُ الَّذِي يَقَعُ مُصَدِّقًا لَهُ، وَالْمُسْتَقَرُّ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ الثَّبَاتُ الَّذِي لَا تَحَوُّلَ فِيهِ، وَاسْمُ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لَهُ، وَإِرَادَةُ الزَّمَانِ هُنَا أَظْهَرَ، وَيَسْتَلْزِمُ غَيْرَهُ مَعَهُ. وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ شَيْءٍ يُنَبَّأُ عَنْهُ مُسْتَقَرٌّ تَظْهَرُ فِيهِ حَقِيقَتُهُ، وَيَتَمَيَّزُ حَقُّهُ مِنْ بَاطِلِهِ، فَلَا يَبْقَى مَجَالٌ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مُسْتَقَرَّ مَا أَنْبَأَ بِهِ الْقُرْآنُ الَّذِي كَذَّبْتُمْ بِهِ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، أَوْ لِكُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْحَقِّ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ زَمَانٌ يَحْصُلُ فِيهِ مَضْمُونُهُ، فَيَكُونُ قَارًّا ثَابِتًا فِيهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْأَنْبَاءِ مَا وَعَدَ اللهُ الرَّسُولَ، مِنْ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ وَمَا أَوْعَدَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [39: 25، 26].{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ إِنَّا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [39: 39- 41] وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِهِ. وَحَسْبُكَ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ فَهِيَ مُطَابَقَةٌ لِمَا هُنَا أَتَمَّ الْمُطَابَقَةِ، وَإِذْ جُعِلَ الْمُسْتَقَرُّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ كَانَ مَعْنَاهُ لِكُلِّ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ اسْتِقْرَارٌ أَيْ وُقُوعٌ ثَابِتٌ لابد مِنْهُ. وَمِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فِي غَيْرِهِمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ نَبَأٌ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ نَبَأٌ عَمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ أُمُورًا تَأْتِي فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيَحْصُلُ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْهَا مَا يَثْبُتُ لِمَنْ فَقِهَ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [41: 52، 53] وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَزْدَادَ فَهْمًا بِوُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَالتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، فَارْجِعْ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِعْجَالِهِمُ الْعَذَابَ وَأَجَلِهِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. اهـ.
|